اليوم العالمي لحرية الصحافة 2025

عندما اندلعت الرصاصة الأولى ايذانا باندلاع المواجهات العسكرية ما بين قوات الجيش السوداني وعناصر الدعم السريع في منتصف شهر ابريل٢٠٢٣ كان من الصعب تصديق ما يجري نتيجة لهول الصدمة على الرغم من سماع دوي الانفجارات وتبادل إطلاق النار وسط الشوارع بالعاصمة الخرطوم. ولكن سرعان ما بدا يتسرب احساس انها الحرب بحق وحقيقية،ما يعني دخول السودان في نفق جديد غير معروف نهايته وهو ما يكاد يحدث الان لكل السودانيين الذين عايشوا تجربة النزاع المسلح، وإفرزات الواقع الإنساني المرير جراء نزوح ملايين السودانيين، ناهيك عن اللاجئين والمفقودين.منهم
أما على مستوى التجربة الخاصة فقد أصبح الأمر أكثر تعقيداً بين تجاذبات الحياة اليومية وتلبية احتياجاتها و تأدية مهنة الصحافة في مثل هكذا ظروف وأوضاع.
وهو ربما ماولد جملة من التحديات المصحوبة بالمعاناة، بداية من انقطاع وسائل الاتصال "الانترنت" - وانتهاء بتحديد مسارات الحركة داخل العاصمة الخرطوم بسبب اشتداد الاشتباكات العسكرية وهو قطعا ما أثر على كل ما يرد من معلومات تتصل بالحرب وانتشار الشائعات.
فقد مكثت نحو "6" أشهر بضاحية الجريف - شرق مدينة الخرطوم. من أهم الاشياء التي ماتزال راسخة في مخيلتي بأن صفة "صحفي" تعد جريمة واحد دروب التخابر مع أحد طرفا الحرب مما دفعني للتخلص من اي أوراق ثبوتيه وهوية تشير أو تثبت بأني صحفي أثناء تحولي ما بين مدينتي الخرطوم بحري - وامدرمان بحلول شهر سبتمبر من العام 2023
فمن المواقف التي لا تُنسي قط عندما كنت أقف محاولاً عبور جسر منطقة "الحلفايا" عند مدينة الخرطوم بحري أمام أحد عناصر قوات الدعم السريع وبعد تفتيش الحقائب والسؤال عن الأوراق الثبوتية جاء سؤال "شغال شنو؟" فكان ردي "أعمل عامل بأحد محلات بيع الهواتف بسوق "6" بمنطقة الحاج يوسف". لقد كانت هذه أول مرة أنكر فيها اني صحفي خوفاً من الصاق التهم الجائرة التي كانت سائدة آنذاك.
وبحلول مطلع شهر اكتوبر اشتدت المعارك العسكرية وازدادت المعاناة في العاصمة الخرطوم من نقص الغذاء وانقطاع التيار الكهربائي ونقص حاد في توفير الأدوية، وانتشار مشاهد "الجثث" في الشوارع. لقد كنت شاهدا على لجوء من فضَّل البقاء، خاصة سكان مناطق واحياء مدينة أمدرمان، الى دفن ذويهم أو أحد أقاربهم داخل المنزل. حينها بات مغادرة العاصمة الخرطوم أمر لابد منه. حزمت امتعتي وخرجت متوجها نحو مدينة ود مدني بولاية الجزيرة بوسط السودان.
وفي مدينة ود مدني سعيت لإعادة صياغة الحياة مجدداً – وقد كانت أولى الخطوات الالتحاق للسكن بأحد مراكز الإيواء بضاحية "الدباغة" بود مدني ولكن لم يمضي سوى شهرين فقط واندلعت المواجهات داخل المدينة لنتخذ قرار النزوح نحو ولاية سنار وبحلول شهر ديسمبر ٢٠٢٣ توجهنا صوب سنار مشياً على الأقدام في رحلة استمرت أربعة أيام.
وماهي الا ايام قلائل وقمنا بمواصلة الرحلة من سنار صوب مدينة" كسلا" والتي جئناها نازحين ليستقر بنا المقام داخل مدرسة "الشهيد ابوفاطمة" والذي تحول الى مركز للإيواء لنمكث فيه ما يقارب الخمسة أشهر
وبمجيء منتصف يونيو قمت باتخاذ قرار العودة لمدينة "أمدرمان" حيث كانت انطلاقة العمل الصحفي مجددا عقب استقرار الأوضاع الأمنية وعودة الخدمات بصورة تدريجية.
عدت الى العمل مرة أخرى وخلال تلك الفترة أتيحت لي الفرصة بأن اكون احد الصحفيين القلائل الذين عملوا على توثيق جهود الاتحاد الأوروبي في دعم المواطنين السودانيين خلال الحرب، خاصة تلك التي تستهدف تخفيف المعاناة عبر توفير دعم القطاع الصحي والتعليمي بالإضافة الى توفير مياه الشرب النظيفة والتغذية للأطفال.
عند مطلع وبدايات الحرب كان الاعتماد الأساسي في الحصول على المعلومات حول "الحرب" خاصة فيما يتصل بالاشتباكات واعداد سقوط الضحايا هم "المواطنين" - أو ما يعرف حديثا بصحافة المواطن والتي أجزم بأنها ساهمت بشكل كبير في تتبع الرأي العام السوداني داخليا وخارجيا لمجريات الحرب.
ولكن من واقع التجربة لعامين من عمر دوران عجلة الحرب في السودان فإن التحديات والمصاعب ترتفع يوما بعد يوم جراء ما طال البنية التحية من دمار وخراب سواء المستشفيات، المدارس، محطات المياه والكهرباء، الجامعات، والأهم من ذلك الإنسان السوداني نفسه فقد أصيب بهزه "نفسية" تحتاج لعلاج طويل المدى.
عندما بسط الجيش سيطرته على بعض الأحياء في الخرطوم تمكنت من تفقد ما تبقى من دور الصحف بمنطقة الخرطوم شرق. وأكثر الاشياء التي كانت سبب في تسريب الحزن في دواخلي، وكدت اذرف الدموع هي رؤية الحرائق والتلف ناهيك عن النهب الذي طال كافة الممتلكات،
فضلا عن ما تعرضت له دار الوثائق السودانية - احد أبرز مصادر الحصول على المعلومات بالنسبة للصحفيين. فقد تم إتلاف نحو ثلاثين مليون وثيقة سودانية تعتبر جزء من قيمة الذاكرة التاريخية للدولة.
اليوم، مازلت متواجد داخل "السودان" من منطلق مسعي الايفاء بعقد مهنة "الأخلاق" وهي الصحافة محاولا تتبع كل ما يتعرض له السودانيين من انتهاكات إنسانية، وتعلم أساليب جديدة من أدوات الصحافة المستحدثة وجعل الصعاب دافع لتجاوز العقبات بحث عن الرواية الحقيقية.
من المحرر: يدعم الاتحاد الأوروبي في السودان الصحافة المستقلة من خلال مشروع "إحياء وتعزيز الإعلام في السودان" الذي تنفذه منظمة إنترنيوز أوروبا وقناة فرنسا الدولية. يهدف المشروع، من خلال تعزيز قدرات وسائل الإعلام السودانية المستقلة، الرقمية والإذاعية والتلفزيونية، إلى زيادة الوصول إلى معلومات عالية الجودة، مبنية على الحقائق، وشاملة، تُمكّن المتلقي من اتخاذ قرارات مستنيرة، ودعم أنشطة بناء السلام والتماسك الاجتماعي بشكل أفضل.