انطلاقة جديدة لمنطقة المتوسط

ناقش المجلس الأوروبي الأخير موضوع الشراكة المتجددة مع جيراننا في جنوب المتوسط، وهو الموضوع الذي اقترحته بالشراكة مع المفوضية الأوروبية بصفتي الممثل الأعلى للاتحاد. التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية التي تواجهها منطقة جنوب المتوسط زادت حدتها بسبب جائحة كوفيد-19 ومواجهتها معاً رهان أساسي في سياستنا الخارجية.

"التحديات الاقتصادية والاجتماعية والبيئية والأمنية التي تواجهها المنطقة زادت حدتها بسبب جائحة كوفيد-19 ومواجهتها رهان أساسي في سياستنا الخارجية."

جوزيب بوريل

 

عندما قدمت للمجلس الأوروبي وثيقة الشراكة مع بلدان الجوار المتوسطي، تذكرت إعلان برشلونة. ففي عام 1995، أكد الاتحاد الأوروبي وشركائه في المنطقة عزمهم المشترك على جعل حوض البحر الأبيض المتوسط منطقة حوار وتعاون تضمن السلام والاستقرار والازدهار. كنت حينذاك حاضرا بصفتي وزيرا في الحكومة الإسبانية ولاأزال أذكر أن هذا الإعلان زرع الأمل في النفوس.

خيبة الأمل بعد الربيع العربي

وبعد ذلك، جاء الربيع العربي الذي انذلع قبل عشر سنوات ليزرع أملا أكبر. وبدا هذا الربيع في جنوب المتوسط وكأنه يحاكي ما وقع سنة 1989. وظننا آنذاك أن اندفاعاً جديدا نحو الحرية والديمقراطية كان ممكنا في هذه المنطقة. وبقية ألأحداث معروفة : الحرب الهوجاء التي دمرت سوريا والمستمرة إلى الآن وانهيار ليبيا وتداعياته الخطيرة على منطقة الساحل وتفشي الإرهاب وأزمة اللاجئين...

 

"الشباب يتركون بلدانهم بسبب الحروب وقلة الحريات وانعدام فرص العمل وانسداد آفاق المستقبل."

 

حَلَّ فقدان الأمل محل التفاؤل وبات الشباب يتركون بلدانهم بسبب الحروب وقلة الحريات وانعدام فرص العمل وانسداد آفاق المستقبل. وفي هذا السياق، يبدو أن الوضع اليوم في جنوب المتوسط أسوء مما كان عليه في 1995 أو 2011.

وَضْعُ جيراننا صعب على المستوى الاقتصادي أولاً. فنحن الأوروبيين أغنى من جيراننا في الجنوب بثمان مرات كمعدل بيد أن الهوة بين ضفتي المتوسط لازالت تتسع. ويعد جنوب المتوسط من المناطق الأقل اندماجا على المستوى الاقتصادي إذ تمثل المبادلات التجارية فيها أقل من 6 في المائة من المبادلات الدولية لبلدان المنطقة. وإلى ذلك، يواجه جيراننا في الجنوب وبشكل كبير تحديات التغير المناخي، ذلك أن الاحتباس الحراري في هذه المنطقة يزداد بسرعة مقارنة مع باقي مناطق العالم كما أن المنطقة تعاني من تفاقم ظاهرة التصحر وتشهد تنافسا متزايداً على الموارد المائية النادرة أصلا.

صعوبات مرتبطة بالديناميات الديمغرافية

إن الصعوبات التي يعاني منها جيراننا في الجنوب مرتبطة كذلك في جزء كبير منها بالدينامية الديمغرافية. فإذا كان عدد سكان المنطقة لا يمثل سوى نصف عدد سكان الاتحاد الأوروبي، إلا أنه ينمو بسرعة أكبر حيث ارتفع عدد سكان بلدان المغرب الكبير الخمس بنسبة 57 في المائة ما بين 1990 و2019، مقابل 6 في المائة في الاتحاد الأوروبي. فضلا عن ذلك، فإن ربع سكان جيراننا في الجنوب لا يتعدى عمرهم 25 سنة، مقابل 15 في المائة في الاتحاد أوروبا، علما أن أقتصاداتهم لا تستطيع توفير فرص عمل كافية لهؤلاء الشباب رغم حصولهم على تكوين جيد، ما يُولد لديهم شعورا بالاستياء يدفعهم نحو الهجرة.

 

"اقتصادات جيراننا لا تستطيع إحداث فرص عمل كافية لهؤلاء الشباب رغم حصولهم على تكوين جيد، ما يُولد لديهم شعورا بالاستياء يدفعهم نحو الهجرة."

 

 

ولا شك أن مشكلة الحوكمة تطرح بحدة في عدة بلدان في المنطقة، لكن علينا أن نتسائل لماذا لم ننجح في مساعدة جيراننا بشكل أفضل حتى يتمكنوا من قيادة انتقال يشبه ذلك الذي شهدته منطقة شرق اوروبا غداة سقوط الشيوعية عام 1989.

في هذا السياق الصعب، جائت جائحة كوفيد-19 لتضرب المنطقة ومعها قطاع السياحة الذي يعد مصدرا أساسيا للعمل والمداخيل. والحال أن هذا القطاع أضحى في حالة جمود شبه تام. وحسب المنظمة الدولية للعمل، خسرت هذه البلدان زهاء 17 مليون منصب عمل في الثلاثي الثاني من سنة 2020 كما تضاعفت نسبة البطالة بسبب هذه الجائحة.

إن التحديات التي لازالت تواجه المنطقة تستدعي منا أكثر من أي وقت مضى جوابا مشتركا نظرا لمصيرنا المشترك. وإذا كان هذا أمر بديهي لدى بلدان الاتحاد الأوروبي المتوسطية مثل البلد الذي أعرفه أكثر، فإن أحداث السنوات الأخيرة أبرزت هذا الواقع بشكل جلي لكل الأوروبيين.

 

" التحديات العديدة التي لازالت تواجه المنطقة تستدعي أكثر من أي وقت مضى جوابا مشتركا نظرا لمصيرنا المشترك"

 

 

علينا الآن أن نحدد ما ننوي فعله لطي صفحة هذه المواعيد التي تخلفنا عنها. في هذا السياق، فإن الوثيقة المشتركة التي قدمتها في مستهل شهر فبراير/شباط بمعية زميلي المفوض فارهيلي المكلف بالجوار والتوسع تتضمن بعض الإجابات في هذا الموضوع.

علينا بادئ ذي بدء أن نعمل جميعا وبشكل وثيق لحل مشاكلنا المشتركة كجائحة كوفيد-19 والنزاعات والهجرة والتغير المناخي والإرهاب... لكن لن نستطيع معالجة كل هذه الملفات وتحقيق التقدم المنشود إلا بإندماج إقليمي يقوم على تعاون عابر للحدود.

تحييد أثر الكربون وتعزيز الطاقات المتجددة

سنقترح على شركائنا بشكل خاص مبادرات لتحييد أثر الكربون وتعزيز الطاقات المتجددة. فللمنطقة إمكانيات هائلة لم يتم استغلالها بشكل كامل خاصة في ما يتعلق بطاقة الرياح وبالطاقة الشمسية. كما نحاول جاهدين تشجيع الاندماج الإقليمي لشبكات الكهرباء. وسنساعد شركائنا أيضا لتعزيز قدرتهم على الصمود أمام التغير المناخي من خلال تكثيف عملنا في مجال التكيف خاصة في القطاعات الأكثر هشاشة كالزراعة والتزويد بالماء.

باعتمادنا على جميع الآليات التي يتوفر عليها الاتحاد، نقترح خطة استثمار لمعالجة الاختلالات البنيوية في المنطقة بشراكة مع البنك الأوروبي للاستثمار والبنك الأوروبي لإعادة البناء والتنمية. فخلال الفترة الممتدة ما بين 2021 و2027، تنوي المفوضية تكريس 7 ملايير أورو من الميزانية الأوروبية لدعم اقتصادات بلدان جنوب المتوسط. ومن شأن هذا الدعم أن يعبئ استثمارات القطاعين العام والخاص في حدود 30 مليار أورو لفائدة المنطقة. وتقترح الوثيقة إطلاق 12 ورش أساسية مع التركيز على الاستثمارات الخضراء.

ورغم كل ذلك، يتعين علينا بذل المزيد. إن تطوير العلاقات الاقتصادية بين الاتحاد الأوروبي وجيرانه في الجنوب أساسي لاستئناف النشاط في الضفة الأخرى للمتوسط. ذلك أن شركائنا يشيرون إلى أن اختلالاتهم التجارية مع الاتحاد الأوروبي زادت خلال السنوات الأخيرة ومن ثم، فعلينا بذل مزيد من الجهود في هذا المجال. إن عزمنا تحقيق استقلالية استراتيجية للاتحاد من خلال خفض مستوى ارتباطنا ببلدان بعيدة يعد فرصة لتطوير علاقاتنا الاقتصادية مع جيراننا في جنوب المتوسط.

 

"عزمنا تحقيق الاستقلالية الاستراتيجية للاتحاد من خلال خفض مستوى ارتباطنا ببلدان بعيدة يعد فرصة لتنمية علاقاتنا الاقتصادية مع جيراننا في جنوب المتوسط."

 

للنجاح في هذا المسعى، يجب كذلك القيام بالإصلاحات الضرورية المتعلقة باحترام دولة القانون وتطبيق الحوكمة الجيدة. هذه الإصلاحات مستعجلة لإعادة ثقة المواطنين في مستقبل مجتمعاتهم وفي التنمية الاقتصادية للمنطقة وبالتالي، يتعين علينا مساعدة الحكومات المستعدة للمضي قدما في هذه الاتجاه.

تحدي جيوسياسي كبير

إن النجاح في تطوير العلاقات مع جيراننا في جنوب المتوسط يعتبر تحد جيوسياسي كبير. ولذلك، يجب العمل على نحو جماعي وعلى أعلى المستويات. وفضلا عن هذا، فإن الالتزام المشترك لكل دولنا الأعضاء في إطار هذه الشراكة أساسي سواء في مجال الأمن أو في مجال التعاون الاقتصادي.  ويمكن بلوغ هذه الأهداف الطموحة من خلال الشبكات الديبلوماسية لدول الاتحاد والتعاون القائم منذ مدة طويلة بينها وبين بلدان جنوب المتوسط والقدرة على تعبئة الفاعلين الخواص في بلدان الاتحاد الأوروبي.

 

"الالتزام المشترك لكل دولنا الأعضاء في إطار هذه الشراكة أساسي سواء في مجال الأمن أو في مجال التعاون الاقتصادي."

 

ولإبراز هذا الالتزام الجماعي، علينا أن نبعث إشارة سياسية قوية. لهذا اقترحت على رؤساء الدول والحكومات تنظيم لقاءات على أعلى مستوى وعلى نحو منتظم مع جميع دول المنطقة على غرار ما نقوم به في إطار شراكتنا الشرقية.

وبالنظر إلى حجم التحديات التي تواجهها منطقة المتوسط، فلا محيد عن العمل بكل عزم لتجاوزها في السنوات المقبلة. علينا أن نعمل بروح أوروبية من خلال تنسيق العمل بين الدول الأعضاء والمفوضية. هذا ما شجَّعَنا عليه رؤساء الدول والحكومات في 26 فبراير الماضي.

More blog posts by EU High Representative Josep Borrell

HR/VP box
HR/VP Josep Borrell cartoon

“A Window on the World” – by HR/VP Josep Borrell

Blog by Josep Borrell on his activities and European foreign policy. You can also find here interviews, op-eds, selected speeches and videos.