يوم شومان لسنة 2020 – رأيي الشخصي في الفكرة الأوروبية

في 9 مايو من كل عام، نحتفل بيوم أوروبا. الذكرى السبعون لإعلان شومان فرصة للتفكير في معنى الاندماج الأوروبي وفي دور الاتحاد الأوروبي على مستوى العالم. من خلال هذه التدوينة ، سأعطي وجهة نظري الشخصية وسأحاول أبين كيف أن أوروبا كفكرة وكمشروع سياسي جديرة بأن ندافع عنها. كالعديد من الناس، كان لمساري الشخصي أثر على قناعاتي السياسية.

 

اهتمامي بالفكرة الأوروبية والتزامي إزائها على المستويين الشخصي والمهني يعود إلى اليوم الذي حصلت فيه على منحة دراسية لما كنت أبلغ من العمر 17 سنة حيث لازال نظام فرانكو قائماً في إسبانيا. حصلت على هذه المنحة كمكافئة عن نص كتبته حول موضوع "آفاق التحاق إسبانيا بما كان يسمى آنذاك "السوق الأوروبية المشتركة". بالنسبة لي وللجيل الذي كان يعيش تحت ديكتاتورية عسكرية، كانت أوروبا تمثل الأمل والتقدم والديمقراطية والحرية والتضامن.

 

اجتزت حدود بلادي لأول مرة كطالب للعمل خلال موسم الصيف وحينئذ لم يكن الأمر بالسهولة التي هي عليه الآن. فقد اشتغلت في ضيعة بالدانمارك وفي قطاع البناء بألمانيا وفي المجال الفندقي ببريطانيا وفي قطف العنب بفرنسا. السفر عبر أوروبا فتح أمامي آفاقاً جديدة وحريات جديدة وفرصاً جديدة.

 

 بعد أن أنهيت دراستي بجامعة بوليتيكنيك بمدريد صيف 1969، اشتغلت في كيبودز وسافرت عبر إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة من هضبة الجولان إلى إيلات. كانت تلك بالنسبة لي أول مقاربة للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. كان ذلك بمثابة تذكير بالطبيعة المأساوية للتاريخ البشري وبضرورة الهروب من المآسي التي يخلفها. وهذا أيضا جزء مما يحفزنا كأوروبيين.

 

تاريخ أوروبا تاريخ صراع حول الحدود خلَّف الملايين من الموتى. ومن ثم فالحدود هي النبود التي يتركها التاريخ. إن فكرة الاندماج الأوروبي تكمن عبقريتها في الدعوة إلى وقف النزاعات حول الحدود والتركيز بدل ذلك على تجاوز الصراعات بشأنها. وقد أصبح الاتحاد الأوروبي رائدا عالميا في إزالة الحدود. للأسف، ظهرت في عالم اليوم حواجز مادية كثيرة تفوق في عددها تلك التي كانت قائمة وقت سقوط حائط برلين.

 

من الغريب والمؤلم أن نعيش حاليا في قارة أوروبية عادت فيها مسألة الحدود إلى الواجهة حيث تم إغلاقها لما يفوق شهراً لأسباب قاهرة لازالت قائمة. لكننا ننتظر لحظة العودة إلى الحدود المفتوحة متى سمحت الظروف بذلك للسفر عبر أوروبا مرة  أخرى.

 

إن الذكرى السبعين لإعلان شومان مناسبة للرجوع إلى المبادئ الأولى التي قامت عليها أوروبا ألا وهي السلام والديمقراطية والتاريخ والتضامن الدولي والحدود المفتوحة. علينا أن نكون طموحين في فكرنا وأعمالنا. وكما قال شومان في إعلانه: " لا يمكن الحفاظ على السلام العالمي دون بذل جهود مبتكرة تتناسب والأخطار التي تهدد هذا السلام".

 

شومان كان طموحا في فكره ولم يكن سجين أساليب التفكير القديمة والمشروع الذي أُطلق لقي نجاحا باهراً. لقد مكن قارة أوروبية منهكة وجاثمة على أنقاضها من أن تثق في نفسها وتنهض مرة أخرى حيث بدأت بست دول أعضاء ثم إثنى عشر دولة  فخمسة عشر إلى أن أصبحت اليوم تضم في عضويتها سبعة وعشرين دولةً . لقد انطلقت من مجموعة الصلب والفحم ثم تطورت إلى سوق مشتركة قبل أن تصبح اتحاداً سياسياً يطمح إلى أن يصير فاعلا جيوسياسيا حقيقيا.

 

صحيح أن ثمة عدة أسباب تدعو إلى الانتقاد. لكن، علينا أن نثبت أن التضامن ليست كلمة فارغة واننا مُجِدون عندما نتحدث عن أوروبا حاضنة. فالواجب الأول هو الحماية وعلى الاتحاد الأوروبي أن يؤدي دورا محوريا في التصدي لفيروس كورونا والرجوع إلى الحالة الطبيعية. فبعد بداية صعبة هاهو يتجند بحضوره في جميع الجبهات. وعند نهاية هذه الأزمة سيحكم المواطنون على الفكرة الأوروبية انطلاقا من جوابهم على السؤال البسيط التالي: "هل يقوم الاتحاد الأوروبي بحمايتي؟".

 

بالأساس، يجب على أوروبا أن تواجه ثلاثة تحديات متزامنة. أولا، علينا أن ندمج الرعاية الصحية في تفكيرنا الأمني وفي مقاربتنا للسيادة الأوروبية.  ثانيا، لتفادي انهيار اقتصاداتنا، علينا أن نأتي بجواب مبتكر ومنسَّق وقوي. ثالثا، على أوروبا أن تقود جهود عالمية منسقة لمواجهة الجائحة. فمن البديهي أن الدول التي تعمل لوحدها لن تنجح.

 

منذ عدة أسابيع، قامت حكوماتنا بمحض إراداتها بخفض الوثيرة التي تسير بها اقتصاداتنا من أجل أن تحافظ على سلامتنا. إن الآثار الاقتصادية الحادة ليست نتيجة أزمة صحية ولكن نتيجة  التدابير التي اتُخذت لتفادي هذه الأزمة. لم يحصل هذا في التاريخ. هذه الظروف غير المسبوقة تؤثر على البلدان بمستويات مختلفة، وهذا من شأنه أن يخلق توترات داخل أوروبا وعبر العالم. العناوين الأساسية اليوم هي السلامة الصحية والقدرة على التحمل والاستقلالية الاستراتيجية وتعدد الأطراف والانتعاش الأخضر.

 

عالم اليوم مختلف كثيراً عن زمن إعلان شومان. قطعنا أشواطا طويلة في 70 سنة تجاوزنا خلالها عدة أزمات.

 

كيف سيكون الاتحاد الأوروبي بعد 70 سنة؟ هذا سيتوقف على القرارات التي سنتخذها اليوم.

 

كشخص عاش فترات صعود وهبوط من التاريخ الأوروبي، انا مقتنع أن علينا التفكير بشكل طموح ومبتكر كما قام بذلك شومان والعمل بهذه الروح.

 

HR/VP box
HR/VP Josep Borrell cartoon

“A Window on the World” – by HR/VP Josep Borrell

Blog by Josep Borrell on his activities and European foreign policy. You can also find here interviews, op-eds, selected speeches and videos.